فصل: بَابُ الْإِطْعَامِ فِي الظِّهَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الصِّيَامِ فِي الظِّهَارِ:

قَالَ: وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ عَنْ ظِهَارِهِ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِالنَّصِّ، فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا يَوْمًا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصِّيَامِ، لِفَوَاتِ صِفَةِ التَّتَابُعِ بِفِطْرِهِ.
- وَالْوَاجِبُ الْمُقَيَّدُ بِوَصْفٍ شَرْعًا لَا يَتَأَدَّى بِدُونِهِ- وَكَذَلِكَ إنْ أَيْسَرَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الصَّوْمِ انْتَقَضَ صِيَامُهُ، وَعَلَيْهِ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ، وَهُوَ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالطَّارِئُ مِنْ الْيَسَارِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ كَالْمُقْتَرِنِ بِحَالَةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ انْتَقَضَ صَوْمُهُ فِي حُكْمِ جَوَازِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا أَصْلُ الصَّوْمِ بَاقٍ فَيُسْتَحَبُّ إتْمَامُهُ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ إنَّمَا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ.
(قَالَ): وَلَوْ صَامَ شَهْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا- شَهْرُ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفَرْضُ فَلَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِمَا لِلْمَرْءِ لَا بِمَا عَلَيْهِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ صَاحِبَيْهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمُسَافِرِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ الظِّهَارِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي حَقِّ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ صَوْمُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّوْمِ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ؛ وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِتَخَلُّلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ.
(قَالَ): وَلَا يُجْزِي الصَّوْمُ لِمَنْ لَهُ خَادِمٌ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِمَا يَتَأَدَّى بِهِ الْأَصْلُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ بِالْبَدَلِ بِخِلَافِ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْمَسْكَنِ فَجُعِلَ مِلْكُهُ فِيهِ كَالْمَعْدُومِ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ مِلْكَ الْمَسْكَنِ يَزِيدُ فِي حَاجَتِهِ، وَالْخَادِمَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَعْنَى فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يَجِدُ بِهَا رَقَبَةً لَمْ يَجُزْ الصَّوْمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}، وَالْوَاجِدُ لِثَمَنِ الرَّقَبَةِ كَالْوَاجِدِ لِعَيْنِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُكْمِ التَّيَمُّمِ، الْوَاجِدُ لِثَمَنِ الْمَاءِ كَالْوَاجِدِ لِعَيْنِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّيَسُّرِ دُونَ الْغِنَى، وَبِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ مَا يَعْتِقُ، وَيَسَارُ التَّيَسُّرِ يَنْفِي الشَّرْطَ الْمَنْصُوصَ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ.
(قَالَ): وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً، لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا، ثُمَّ صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مُتَتَابِعَةٍ، ثُمَّ مَرِضَ فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَمْ يَنْوِ فِي ذَلِكَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا أَجْزَأَهُ عَنْهُنَّ اسْتِحْسَانًا، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ أَعْتَقَ حِينَ وَجَدَ ثُمَّ صَامَ حِينَ لَمْ يَجِدْ مَا يُعْتِقُ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ ثُمَّ أَطْعَمَ حِينَ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّوْمَ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِمَرَضِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الْعُذْرِ بَعْدَ التَّكْفِيرِ، ثُمَّ فِيمَا أَدَّى وَفَاءً بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَيُجْزِيهِ.
(قَالَ): وَإِذَا بَانَتْ مِنْ الْمُظَاهِرِ امْرَأَتُهُ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهَا، وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ مُرْتَدَّةٌ لَاحِقَةٌ بِدَارِ الْحَرْبِ جَازَتْ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالظِّهَارِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، وَلَوْ سَقَطَتْ لَمْ يَعُدْ بِالتَّزَوُّجِ.
وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ الْوَاجِبِ صَحَّ إسْقَاطُهُ بِأَدَائِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُ لِلْحَالِ لِكَوْنِهَا مُرْتَدَّةً أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْكَفَّارَةِ يَرْفَعُ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالظِّهَارِ وَلَا يُوجِبُ حِلَّ الْمَحَلِّ.
(قَالَ): وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عَنْ ظِهَارِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَجْزَى عَنْهُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَبْقَى بَعْدَ رِدَّتِهِ عِنْدَهُ، وَطَعَنَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: هَذَا الْجَوَابُ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِعِتْقٍ هُوَ قُرْبَةٌ خَالِصَةٌ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالْعِتْقِ بِجُعْلٍ، وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَلَا تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ، وَكَمَا تَوَقَّفَ أَصْلُ عِتْقِهِ تُوقَفُ نِيَّتُهُ فَيَصِيرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حُكْمُ النِّيَّةِ كَمَنْ أَبْهَمَ النِّيَّةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَجًّا، أَوْ عُمْرَةً لِتَعْيِينِهِ فِي الثَّانِي، وَيُجْعَلُ عِنْدَ التَّعْيِينِ كَأَنَّهُ جَدَّدَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ يَبْطُلُ حُكْمُ رِدَّتِهِ، وَلِهَذَا يُعَادُ إلَيْهِ مِنْ أَمْلَاكِهِ مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ، فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ مَا يَنْبَنِي عَلَى رِدَّتِهِ، وَهُوَ فَسَادُ نِيَّتِهِ (قَالَ): وَإِنْ أَكَلَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَمْ يَضُرَّ، وَكَذَلِكَ إنْ جَامَعَ غَيْرَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذَا الْفِعْلِ عَلَيْهِ؛ لِأَجْلِ الصَّوْمِ، فَيَخْتَلِفُ بِالنِّسْيَانِ، وَالْعَمْدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- فَإِنَّ حُرْمَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَيْسَ لِأَجْلِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فَيَسْتَوِي فِيهِ النِّسْيَانُ، وَالْعَمْدُ؛ ثُمَّ إنْ صَامَ الْمُظَاهِرُ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَهْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنْ صَامَ لِغَيْرِ الْأَهِلَّةِ ثُمَّ أَفْطَرَ لِتَمَامِ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ، وَالْأَيَّامُ بَدَلٌ كَمَا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» فَعِنْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ-، وَهِيَ الْأَهِلَّةُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْأَيَّامِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ الِاعْتِبَارُ بِالْأَيَّامِ فَلَا يَتِمُّ الشَّهْرَانِ إلَّا بِسِتِّينَ يَوْمًا، فَإِنْ صَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ، أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ يُعْتَبَرُ كُلُّهُ بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي، وَعِنْدَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْأَيَّامِ فِيمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِالْأَهِلَّةِ، وَهُوَ الشَّهْرُ الْوَاحِدُ فَقَطْ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الْإِطْعَامِ فِي الظِّهَارِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: وَيُجْزِيهِ أَنْ يَدْعُوَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَيُغَدِّيَهُمْ، وَيُعَشِّيَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَاتِ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ: لَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ فَقَطْ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}- وَالْإِطْعَامُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ- وَلَازِمُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ، وَذَلِكَ الْأَكْلُ دُونَ الْمِلْكِ فَفِي التَّمْلِيكِ لَا يُوجَدُ الطَّعَامُ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّمْكِينِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ، وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْإِطْعَامُ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ عُرْفًا يَقُولُ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ.
أَيْ: مَلَّكْتُك، وَالْمَقْصُودُ سَدُّ خَلَّةِ الْمِسْكِينِ، وَإِغْنَاؤُهُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ التَّمْكِينِ فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْكِينِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ، كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَاسَ بِالْكِسْوَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمَسَاكِينَ ثِيَابًا فَلَبِسُوا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ التَّمْكِينُ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ وَفِي التَّمْلِيكِ تَمَامُ ذَلِكَ فَيَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
أَمَّا بِالتَّمْلِيكِ؛ فَلِأَنَّ الْأَكْلَ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ جُزْءٌ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ فَإِمَّا أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَصْرِفَ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى، فَيُقَامُ هَذَا التَّمْلِيكُ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ لِمُرَاعَاةِ عَيْنِ النَّصِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ يُشَبِّهُهُ بِطَعَامِ الْأَهْلِ فَقَالَ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}، وَذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ تَارَةً، وَبِالتَّمْكِينِ أُخْرَى فَكَذَا هَذَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشَبَّهِ حُكْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِكَسْرِ الْكَافِ عَيْنُ الثَّوْبِ فَأَمَّا الْفِعْلُ بِفَتْحِ الْكَافِ كِسْوَةٌ، وَهُوَ الْإِلْبَاسُ فَثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ التَّكْفِيرَ بِعَيْنِ الثَّوْبِ لَا بِمَنَافِعِهِ، وَالْإِعَارَةُ، وَالْإِلْبَاسُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، فَأَمَّا فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ الْمِسْكِينُ طَاعِمٌ لِلْعَيْنِ وَبِالتَّمْكِينِ يَحْصُلُ الْإِطْعَامُ حَقِيقَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَالْوَاجِبُ هُنَاكَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ بِالنَّصِّ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْوَاجِبِ فِعْلُ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ، وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ فِقْهُ الرَّجُلِ.
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّمْكِينِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ، إمَّا الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ، وَإِمَّا غَدَاءَانِ أَوْ عَشَاءَانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ، وَذَلِكَ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ عَادَةً وَيَسْتَوِي فِي خُبْزِ الْبُرِّ أَنْ يَكُونَ مَأْدُومًا أَوْ غَيْرَ مَأْدُومٍ، وَفِي الْكِتَابِ أَطْلَقَ الْخُبْزَ، وَمُرَادُهُ خُبْزُ الْبُرِّ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِسْكِينَ يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَاجَتَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْدُومًا بِخِلَافِ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ تَمَامَ حَاجَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ مَأْدُومًا، وَكَذَلِكَ لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ بِسَوِيقٍ، وَتَمْرٍ قَالُوا: وَهَذَا فِي دِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ عَادَةً، وَيَسْتَوْفُونَ مِنْهُ حَاجَتَهُمْ، فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا لَا بُدَّ مِنْ الْخُبْزِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ طَعَامِ الْأَهْلِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَكْلَتَانِ الْمُشْبِعَتَانِ مِمَّا يَكُونُ مُعْتَادًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
فَقَدْ قَالَتْ الصَّحَابَةُ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- أَعْلَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ، وَاللَّحْمَ، وَأَوْسَطُ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ، وَاللَّبَنَ، وَأَدْنَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ، وَالْمِلْحَ.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَارَ التَّمْلِيكَ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ دَقِيقٍ، أَوْ سَوِيقٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ «لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَقَالَ: فَرِّقْهَا عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا» وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثَيْنِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَحَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ بُرٍّ- وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَيَكُونُ نَظِيرَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَا يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِالْمُدِّ بَلْ بِمَا قُلْنَا، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَرِّقْهَا، وَمِثْلَهَا مَعَهَا ثُمَّ هَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ لَا يَتَقَدَّرُ بِأَرْبَعَةِ أَمْنَاءَ عِنْدَهُ، وَإِنْ أَعْطَى قِيمَةَ الطَّعَامِ كُلَّ مِسْكِينٍ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ سَدُّ الْخَلَّةِ وَهُوَ عِنْدَنَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ.
(قَالَ): وَإِنْ أَعْطَى مِنْ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّيْنَاهُ وَهُوَ يُسَاوِي كَمَالَ الْوَاجِبِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ مِقْدَارِهِ، مَعْنَاهُ إذَا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ يُسَاوِي صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ.
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْمُؤَدَّى، وَهُوَ كَإِعْطَاءِ الْقِيمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَسَا عَشْرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا فِي كَفَّارَةٍ جَازَ عَنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ قِيمَةِ الطَّعَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُؤَدَّى عَيْنُ الْمَنْصُوصِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ بَلْ يُعْتَبَرُ عَيْنُ النَّصِّ بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاكْتِسَاءُ وَبِعُشْرِ الثَّوْبِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَلَمْ يَكُنْ الْمُؤَدَّى مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ الْمَعْنَى فِيهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ فِي إقَامَةِ صِنْفٍ مَقَامَ صِنْفٍ إبْطَالُ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صِنْفٍ، وَكُلُّ تَعْلِيلٍ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ النَّصِّ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ فِي الْكِسْوَةِ تَقْدِيرٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَإِقَامَتُهُ مَقَامَ الطَّعَامِ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِسْوَةِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِالطَّعَامِ فَلِلْمُغَايَرَةِ يَجُوزُ إقَامَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَالْمَقْصُودُ بِأَصْنَافِ الطَّعَامِ وَاحِدٌ فَاعْتِبَارُ عَيْنِ الْمُؤَدَّى فِيهِ أَوْلَى، فَإِذَا كَانَ الْمُؤَدَّى لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُدٍّ آخَرَ لِيَصِلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا قَدَرَ نَصًّا.
(قَالَ): وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا آخَرِينَ مُدًّا مُدًّا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إيصَالُ نِصْفِ صَاعٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ لِيَحْصُلَ بِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ.
وَزَوَالُ الْحَاجَةِ فِي يَوْمِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِصَرْفِ نِصْفِ الْوَظِيفَةِ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ.
(قَالَ): وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ، وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ نِصْفِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَهُوَ زَوَالُ حَاجَتِهِ فِي يَوْمِهِ.
وَلَوْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ كُلَّهُ مِسْكِينًا وَاحِدًا لَمْ يُجْزِهِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَفْرِيقُ الْفِعْلِ بِالنَّصِّ فَإِذَا جَمَعَ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، كَالْحَاجِّ إذَا رَمَى الْحَصَيَاتِ السَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ أَعْطَاهُ فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَكْرَارِ الْأَيَّامِ لَا يَصِيرُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ وَشُبِّهَ هَذَا بِالشَّهَادَةِ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ وَإِنْ كَرَّرَ شَهَادَتَهُ فِي مَجْلِسَيْنِ لَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى شَاهِدَيْنِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ فِي مَعْنَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَذَلِكَ يَتَجَدَّدُ لَهُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ فَكَانَ هُوَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْمَعْنَى مِسْكِينًا آخَرَ لِتَجَدُّدِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ يَقْتَضِي طَعَامًا لَا مَحَالَةَ فَمَعْنَى الْآيَةِ فَالطَّعَامُ طَعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ، وَبِهِ فَارَقَ الشَّهَادَةَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ هُنَاكَ، وَبِتَكْرَارِ الْوَاحِدِ شَهَادَتَهُ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ فَرَّقَ الْفِعْلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا إشْكَالَ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَوْفِي فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
فَأَمَّا فِي التَّمْلِيكِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ، وَالْحَاجَةُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ، فَإِذَا فَرَّقَ الدَّفَعَاتِ جَازَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْأَيَّامِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: أَنَّهُ لَوْ كَسَا مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ لِتَفَرُّقِ الْفِعْلِ، وَإِنْ انْعَدَمَ تَجَدُّدُ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَخَذَ وَظِيفَتَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ صَرَفَ إلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَعَامَ مِسْكِينٍ عَنْ كَفَّارَتِهِ يَجُوزُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا صَرَفَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ طَعَامَ مِسْكِينٍ، آخَرَ؛ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ طَاعِمٌ بِمِلْكِهِ، وَإِطْعَامُ الطَّاعِمِ لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا أَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَالِكِ لَا يَتَحَقَّقُ، وَبَعْدَ مَا اسْتَوْفَى وَظِيفَتَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا يَحْصُلُ سَدُّ خَلَّته بِصَرْفِ وَظِيفَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَيْهِ بِخِلَافِ كَفَّارَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِي فِي حُكْمِ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ كَالْمَعْدُومِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ، فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؛ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ فَيُقَامُ تَجَدُّدُ الْأَيَّامِ فِيهِ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا.
(قَالَ): وَلَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ مِنْ ظِهَارَيْنِ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ امْرَأَتَيْنِ لَمْ يُجِزْ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَيُجْزِئُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِي الْمُؤَدَّى وَفَاءً بِوَظِيفَةِ الْكَفَّارَتَيْنِ، وَالْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مَحَلُّ الْكَفَّارَتَيْنِ فَيُجْزِئُهُ.
كَمَا لَوْ أَعْطَى عَنْ كَفَّارَةٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى حِدَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ إحْدَاهُمَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَالْأُخْرَى كَفَّارَةُ الْفِطْرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا بِالنِّيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُمَا يَقُولَانِ زَادَ فِي الْوَظِيفَةِ، وَنَقَصَ عَنْ الْمَحَلِّ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِقَدْرِ الْمَحَلِّ كَمَا لَوْ أَعْطَى ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فِي كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ طَعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَمَحَلُّ إطْعَامِ الظِّهَارَيْنِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِسْكِينًا، وَقَدْ نَقَصَ عَنْ الْمَحَلِّ وَزَادَ فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَقَدْ أَدَّى صَاعًا، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي التَّمْيِيزِ لَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي الْعَدَدِ، فَنِيَّتُهُ عَنْ ظِهَارَيْنِ وَعَنْ ظِهَارٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، فَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ عَنْ الْكَفَّارَتَيْنِ لِيَكُونَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمُؤَدَّى (قَالَ): وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مَنْ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إلَّا فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَفُقَرَاءُ الْإِسْلَامِ أَحَبُّ إلَيْنَا، وَلَا يَجْزِيهِ أَنْ يُعْطِيَ فُقَرَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ بِتَمَامِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِنَذْرِهِ يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَأَمَّا مَا أَوْجَبَهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا يَصْرِفُهُ إلَّا إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالزَّكَاةِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ): فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرِقٌّ بِيَدِهِ وَهُوَ مَحَلٌّ لِلِاسْتِرْقَاقِ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فَإِنْ أَعْتَقَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ يَنْفُذُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ذِمِّيٌّ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَإِعْتَاقِ الذِّمِّيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَمْ يَذْكُرْ إعْتَاقَ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ عَنْ ظِهَارِهِ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُجْزِي بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ: أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ عَنْ الظِّهَارِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَمَا عَلَيْهِ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ التَّكْفِيرِ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَدْيُونًا أَوْ مَرْهُونًا.
(قَالَ): وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَدْيُونَ جَازَ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الْمَرْهُونَ جَازَ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا وَسَعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّعَايَةِ لَيْسَتْ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ إذَا أَيْسَر فَلَا يَكُونُ هَذَا عِتْقًا بِجُعْلٍ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ مَرَضِ الْمَوْتِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ، وَتِلْكَ السِّعَايَةُ بَدَلُ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِجُعْلٍ.
(قَالَ): وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُدْخِلَ الشَّيْءَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَبِدُونِ مِلْكِهِ لَا تَتَأَدَّى كَفَّارَتُهُ وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَقَرَّرَنَا طَرِيقَ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمِسْكِينَ نَائِبًا فِي الْقَبْضِ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ وَإِنْ صَامَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يُجْزِئُهُ.
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.